في تحليل الخطاب الاجتماعي السياسي - عبدالرحمن بو درع
يُعالجُ الكتابُ أربعَ قَضايا كبْرى من قَضايا الأمّة، هي العَدالَةُ الاجتماعيّةُ، وهجرةُ الكَفاءاتِ العلميّةِ، واللغةُ والهويّةُ، وقضيةُ المرأة. والجامعُ بيْنَها واقعُ الأزماتِ التي أصيبَت بِها الأمّةُ العربيّةُ الإسلاميّةِ في الصّعيدِ السياسيّ والاجتماعيّ والعلميّ، فالأمّةُ عاشَتْ، وما زالَت تَعيشُ أَزمةَ تَطوُّرٍ حَضاريٍّ في الوَطن العربيِّ، في بَعضِ أبعادِها المذكورَةِ آنفاً، وعانَت بسبب تلك الأزمة نَكباتٍ وغيابَ أمن واسْتقْرار.
ويُحاولُ هذا البحثُ أن يَتناولَ القضَايا الأربعَ بمُقاربةٍ حديثةٍ تتّصلُ بالتَّحْليلِ النّقديّ للخطاب؛ الذي يربطُ بين بنيةِ الخطابِ والقَضايا الاجتماعيّةِ والسياسيّةِ والثّقافيّةِ، ويرصدُ مَظاهرَ التّفاعُلِ بين الخطابِ والمُجتمَعِ. ولا يزعمُ البحثُ أنّه يُقيمُ بوُضوحٍ تامٍّ جسراً واصلاً بين التَّحليلِ اللسانيّ للنّصّ الاجتماعيّ والسياسيّ والثّقافيّ وبين العلوم الاجتماعيّةِ، ولكنّه يَحرصُ على الانطلاقِ من الخطابِ المُنجَزِ في الحُقولِ الأربعةِ المبحوثِ فيها، وتَحليلِه تَحليلاً نَقدياً ما وَسِعَه الجهدُ، فاللُّغةُ ذاتُ تأثيرٍ عَميقٍ في مَسالكِ الحَياةِ الاجْتماعيّةِ والسِّياسِيّةِ والثَّقافيّةِ، وذاتُ عَلاقَةٍ بالسّلطةِ السياسيّةِ، وللخطابِ اللغويّ تأثيرٌ في إحداثِ التَّغْييرِ الاجتماعيّ، وفي الانتقالِ السياسيِّ، بل اللّغةُ جزءٌ من الحَياةِ الاجتماعيّةِ، فبَيْنَها وبين عَناصرِ الحَياةِ الاجتماعيّةِ الأخْرى عَلاقةٌ منطقيّةٌ جدليّةٌ، وفي كلِّ تَحليلٍ خطابيٍّ تُرجَّحُ كفّةُ اللغةِ، ويَتقدَّمُ الخطابُ اللغويُّ بوصفِه النّاطقَ الرّسميَّ باسمِ المُجتَمَعِ وقَضاياه وظَواهِرِه، سواء عليْه أكانَ خطاباً تَداولياً حِجاجيّاً يَتوسَّلُ بالاستدلالِ البُرهانيّ، أم كانَ خطاباً تَخييليّاً أدبيّاً يتوسَّلُ بالقيم البَلاغيّة والتّعبيريّةِ
ويُؤملُ أن يُخاطبَ هذا الكتابُ نَوعَيْن من القُرّاءِ والباحِثينَ؛ الأوّلُ منهُما الباحثونَ في العلومِ الاجْتماعيّةِ والإنسانيّةِ عامّةً، والثّاني الباحثونَ اللّسانيونَ المُشتغلون بلسانياتِ النّصّ وتَحْليلِ الخطابِ؛ وما ذلِك إلاّ لأنّ البَحْثَ في مواضيعَ اجتماعيَّةٍ بأداةٍ لسانيّةٍ كتَحليلِ الخطابِ، يَتعاملُ مع موادَّ لغويّةٍ هي الخطابُ الواصِفُ للظّواهِرِ والخطابُ النّاقدُ، وهي موادُّ لغويّةٌ ذاتُ دلالاتٍ، ويُسهمُ في دَفْعِ الأداةِ اللّسانيّةِ إلى أن تَنْخرِطَ في مُعاينَةِ الظّواهِرِ الاجتماعيّةِ ومُعالَجَةِ قَضايا الثَّقافَةِ والهويةِ والمرأةِ والعَدالَةِ الاجتماعيّةِ وهجرَة الكَفاءاتِ العلميّةِ، وغيْرِها من الظّواهِرِ الاجتماعيّةِ والسياسيّةِ المُتوالِدَةِ المُتجدِّدَةِ التي تولَدُ ومَعها حَشدٌ ورُكامٌ من النّصوصِ والخطاباتِ المُلازِمَةِ والواصفَةِ والنّاقِدَةِ. فعِنايةُ الباحثينَ الاجتماعيّينَ بقَضايا اللّغة منذُ أن بدأ مع روّادِ عُلماءِ الاجتماعِ الفرنسيّينَ، وهُم يهتمّونَ بإشكاليّةِ الرّمزِ الجَمْعيّ؛ حيثُ وُضعَت اللّغةُ أداةً لدراسةِ التّصوُّراتِ الجَمعيّةِ، ولكنّ عالمَ اللغةِ النّمْساويَّ فرديناند دوسوسير هو الذي أتاحَ الفرصةَ لإعادةِ التّفكيرِ في أثَرِ اللّغةِ والرّموزِ الجَمْعيّةِ في الحَياةِ الاجتماعيّةِ، عندَما نَظرَ إلى اللغةِ بوصفِها ظاهرةً اجتماعيّةً، وأنّ على عالِم اللّسانياتِ أن يُنصِتَ إلى المُجتمَع، فيجمَعَ ويُسجِّلَ في المُتون.