تحاول هذه الدراسة أن تجمع ما بين الفقه والتاريخ كمجالين معرفيين ومصدرين مختلفين يتكاملان ويتداخلان جدليًّا، بهدف إنتاج رؤية تاريخية معاصرة تعتمد المدونات الفقهية مصدرًا أصيلًا إلى جوار المصادر التاريخية الكاشفة لأحوال المجتمع والأعراف وتبدل السلطة وتحولاتها.
وقد انطلقت الدراسة من النصوص الفقهية التأسيسية، ثم سبرت مدونات الفقه الحنفي المعتمدة تاريخيًّا، وقسمتها بحسب الحقب التاريخية المرتبطة فيما بينها بسمات محددة، ثم اصطفت للبحث الموسع والنظر الدقيق أنموذجين يحملان خصائص النظر الفقهي والتأثير التاريخي والمجتمعي: يمثل الأول الفقه الحنفي في مصر في القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي متجليًا في نصوص الفقيه الحنفي ابن نُجَيْم، ويمثل الثاني الفقه الحنفي في دمشق في النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري/ نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر الميلادي وفق نصوص الفقيه الحنفي ابن عابدين، غير مقتصرة في ذلك على النصوص الفقهية فقط، بل مستوعبة للفتاوى والوثائق وسجلات المحاكم الشرعية والمصادر والمراجع التاريخية للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
وقد توصلت الدراسة إلى أن الاجتهاد الفقهي لم يتطور تاريخيًّا بصورة ثابتة، بل كان يتسع ويضيق ويجمد ويتطور بحسب البيئة التي تشكل فيها، وعلى هذا جاءت النصوص المؤسسة في المذهب الحنفي أكثر حيادية من الاجتهادات المتأخرة، وفي الفترات التي وصمت في التاريخ بأنها فترات انحطاط مثل فترة الغزو المغولي حصلت المرأة على حقوق سياسية واسعة تجلت بتولي سلطانة لعرش الهند ومصر وحكم امرأة في العراق، وانعكس هذا كله على الفقه فأصبح الفقيه ينص على حِلِّ تولي المرأة لمنصب السلطنة وتولي أمر المسلمين ويناقش الإجراءات التي تترتب عليها فقهيًّا.