النادي الميتافيزيقي : قصة الافكار في امريكا - لويس ميناند
كون الولايات المتحدة خاضت حربًا أهلية من دون أن تغيّر في هيئتها الحكومية لحقيقة مذهلة، فالدستور لم يُهمل خلالها، ولم تُعلّق الانتخابات، ولم يكن هناك انقلاب في الحكم. دارت الحرب للحفاظ على نظام الحكومة الذي أنشئ أثناء تأسيس البلاد، لإثبات، في حقيقة الأمر، أن النظام يستحقّ المحافظة عليه وأن فكرة الديمقراطية لم تفشل. كان هذا معنى توجه غيتيسبرغ وصرخة القتال العظيمة للشمال: «وحدة». لقد حوفظ على النظام ونجا الاتحاد بالفعل، ولكن غدت الولايات المتحدة دولةً مختلفةً في كل جانب آخر عداه. صحيح أن الحرب لم تجعل من أميركا حديثة، ولكن أعلنت عن ولادتها.
وكحدث سياسي واقتصادي، ليس من الصعب إبصار التحوّل أو شرحه. فالانفصال سمح للشمال، ولأربع سنين، بوضع شروط لتمدّد وطني من دون تدخّل من الجنوب، ولم يجعل الكونغرس وقت الحرب فرصة كهذه تنزلق من بين أيديه، فكان ذاك الكونغرس الأكثر فاعلية في التاريخ الأميركي. دعم التدريب العلمي والبحث، وأسس أول نظام للضرائب الوطنية وصنع أول عملة وطنية يُعمل بها، كما جعل من بناء جامعات عامة وإكمال سكة حديد عابرة للقارة أمرًا ممكنًا. بالإضافة إلى تحويله الحكومة الفيديرالية إلى محرّك تشريعي للعملية الاجتماعية والسياسية. وساعد في الفوز بالحرب، وذلك بالهزيمة العسكرية للكونفدرالية التي جعلت من الحزب الجمهوري القوة المهيمنة في سياسات البلاد بعد 1865، إذ غدا الحزب الجمهوري بطل المرحلة. ولأكثر من ثلاثين عامًا، حمت ودعمت الحكومة المركزية القوية صعود الرأسمالية الصناعية ونمط الحياة الذي ارتبط بها نمط الحياة الذي ندعوه بالـ «حديث».
كانت نتيجة الحرب الأهلية حتى هذا الحد تصديقًا على التجربة الأميركية كما تأمل الرئيس لينكون أن تكون. عدا في أمر واحد، هو أنه لا يجب على الناس الذين يعيشون في مجتمعات ديمقراطية أن يحلّوا خلافاتهم عبر قتلهم بعضهم البعض. فلقد كانت الحرب الأهلية تجربة فظيعة وصادمة للجيل الذي عاش خلالها، بحيث شقت شرخًا في حياته. وبدت الحرب لبعضهم ليس فشلًا في الديمقراطية فحسب بل فشل في الثقافة والأفكار. وكما تفعل الحروب الصادمة - وكما ستصنع الحرب العالمية الأولى للأوروبيين بعد ستين سنة، وكذلك ستفعل حرب فيتنام للعديد من الأميركيين بعد مئات السنوات - أخزت الحرب الأهلية إيمان وافتراضات العهد الذي سبقها. فذاك الإيمان لم يمنع البلاد من الذهاب للحرب؛ لم يُحضّرها للعنف الذاهل الذي سرحته الحرب؛ بدوا بالين بشكل سخيف في عالم ما بعد الحرب. صحيح أن الحرب جرفت حضارة العبيد من الجنوب، ولكنها جرفت معها كل الثقافة الفكرية للشمال تقريبًا. لقد احتاجت الولايات المتحدة إلى قرابة نصف قرن كي تطوّر ثقافة تستعيض بها عما فات، أي لإيجاد سلسلة من الأفكار وطريقة تفكير يمكنها أن تساعد الناس كي يتأقلموا مع ظروف الحياة الحديثة. هذا الصراع هو موضوع الكتاب.
هناك دروب عدة تمرّ من خلال هذه القصة، والدرب المتبوع هنا يسري عبر حياة أربعة أشخاص: أوليفر ويندل هولمز، ويليام جيمس، تشارلز س. بيرس وجون ديوي. امتلك هؤلاء الأشخاص شخصيات رفيعة التميّز، ولم يتفقوا مع بعضهم دائمًا، ولكن تقاطعت مسيراتهم المهنية في نقاط عدة، وكانوا معًا أكثر مجموعة مسؤولة عن نقل الفكر الأميركي إلى العالم الحديث. إذ لم يمتلكوا تأثيرًا لا يُوازى على الكُتاب والمفكرين فحسب، بل امتلكوا تأثيرًا مهولًا على الحياة الأميركية. فأفكارهم غيّرت الطريقة التي يفكر بها الأميركيون – وما زالوا يفكرون - عن التعليم والديمقراطية والحرية والعدالة والتسامح. وكنتيجة، غيّروا الطريقة التي يعيش بها الأميركيون – الطريقة التي يتعلمون بها ويعبرون عن آرائهم ويفهمون بعضهم البعض ويعاملون بها المختلفين عنهم. نحن لا نزال نعيش، وإلى حد كبير، في البلاد التي ساعد هؤلاء المفكرون على صنعها.