استراتيجيات الخطاب : مقاربة لغوية تداولية - جزآن - عبدالهادي بن ظافر الشهري
يعدّ موضوع استراتيجيات الخطاب من الموضوعات اللغوية المهمة، وتكمن أهميته في كل مجال من مجالات الحياة، ومنها المجال الاجتماعي والمجال التعليمي والسياسي والاقتصادي. فللمجتمع سياقات كثيرة تتطلب خطابات متنوعة، لترضي أهداف الناس المتباينة. ولذلك فالحاجة قائمة لاكتشاف هذه الإستراتيجيات، ومعرفة كيفية تطويعها واستعمالها، وتطوير ذوات الناس التخاطبية بما يواكب متطلبات السياق وما يكفل التكيف مع تقلباته. والمجتمع العربي أولى المجتمعات بذلك في حياته الثقافية لما للخطاب من دور في تقريب وجهات النظر، وإيضاح الحقائق وتوجيه الناس صوب الوجهة التي يرضونها.
ومن ناحية أخرى، فإن استراتيجيات الخطاب، وإن كانت تندرج في الإطار اللغوي التداولي، فهي لم تلق العناية، ولم تحط بدراسة مستقلة في اللغة العربية تبرز خصائصها، وتظهر دقائقها، لا في الدراسات القديمة ولا في الدراسات المعاصرة، فضلاً عن تخصيصها بدراسة مستقلة. هذا وليست الدراسات الغربية بدعاً من ذلك، باستثناء دراسة (جون قمبزر) التي كانت بعنوان (استراتيجيات الخطاب). ومع هذا معالجته لها كانت تختلف عما يجب معالجته، إذ اكتفى بمعالجة اللغة في مستوياتها المعروفة مثل مستوى التطريز الصوتي والمعجمي. وقد كان هذا القصور العام في الدراسات اللغوية هو ما حفّز الباحث على المبادرة إلى دراستها في ضوء هذا المنهج، على اختلاف محاوره، وذلك في كتابه الذي نقلب صفحاته، وهو بهذه الدراسة إنما سدّ الفراغ، لتتجلى من خلالها أبعادها، وتدرك بها آثارها، وذلك باستثمار ما يتصل بالمنهج التداولي وتوظيفه، بالتوفيق بين ما ورد عند القدماء وما ورد عند المحدثين من عرب وغيرهم، بغض النظر عن انتماءاتهم العلمية أو تخصصاتهم الفرعية؛ بغية الوصول إلى تبويبٍ واضحٍ من خلال الطرح النظري المؤسس على شواهد وأمثلة متفرقة.
لذلك لم تخضع هذه الدراسة إلى قيد معين، ولم تحصر ذاتها ضمن إطار جزئي بعينه، أو تنكفئ على نفسها وفق رؤية باحث ما، حيث وظف المؤلف كل ما ألفاه صالحاً لخدمة هدف بحثه هذا، حتى ما ورد عند النحويين من أشكال معينة أو أدوات خاصة بالطريقة التي تتلاءم مع منهج الدراسة وبما يكفل تحقيق الهدف منها.
وقد تمّ الاعتماد في هذه الدراسة لاستراتيجيات الخطاب على المنهج التداولي في إنتاج الخطاب؛ بوصفه مستوىً تصنيفياً إجرائياً في الدراسات اللغوية يتجاوز دراسة المستوى الدلالي، ويبحث في علاقة العلامات اللغوية بمؤوليها، مما يبرز أهمية دراسة اللغة عند استعمالها. وبالإضافة إلى ذلك فإن المنهج التداولي مكن الباحث من دراسة ما يعنيه الخطاب في سياق معين، كما مكنه من معرفة أثر السياق في لغة الخطاب عند إنتاجه، مستشهداً لذلك بأمثلة من الخطاب العربي قديمه وحديثه من خلال نصوص تمّ اختيارها على سبيل المثال لا الحصر، من كتب علماء الأصول والبلاغة والموسوعات الأدبية، ومن خطب العرب في مختلف العصور، بالإضافة إلى نصوص حديثة تعالج قضايا معاصرة تمّ اختيارها من بعض الأعمدة الصحفية والحوارات المسجلة والخطابات العادية. وإلى جانب ذلك تمّ رصد جميع معطيات السياق السابق ذكرها لهذا التطبيق، ومن ثم تمّ بيان أثرها في اختيار الاستراتيجية.
ليصار من ثم إلى تحديد هذه الاستراتيجيات وتصنيفها ضمن الخطاب، ودراستها لمعرفة الآليات الخطابية والأدوات اللغوية، للنفوذ إلى المعاني والمقاصد المتوخاة، ابتغاء الوقوف على النتائج الخطابية المترتبة على ذلك، والأهداف التي استطاع الخطاب تحقيقها.