
فكر المعري : ملامح جدلية - كمال القنطار
اتخذت كلمة جدل (ديالكتيك: Dialectics) أكثر من مدلول منذ أن ظهرت في لغة الفلسفة الأغريقية، ولكن ما يتصل بهذا البحث الذي يرصد الملامح الجدلية في فكر العربي هو المدلول الحديث لهذه الكلمة والذي اكتسبته على يد الألمان ، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر: كانْتْ، فيخته، شيلينغ، هيجيل، ماركس، واغتنى من ثم، عبر الأبحادث والمنجزات العلمية، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
وإلى هذا، فإن الجدل وفق الرؤية الحديثة هو المنهج المعرفي - المنطقي الذي ينظر إلى الكون كوحدة مترابطة متفاعلة، يؤثر الكل في الجزء، ويؤثر الجزء في الكل، وهذه المنظومة الواحدة لا تعرف الثبات أو السكون فهي حياشة بالحركة، وفي حالٍ من التغيير الشامل، منذ الأزل إلى الأبد.
يرصد هذا المنهج حركة الأشياء والظواهر في الواقع الموضوعي، وما يتولد عنها، في العقل من مفاهيم، ويتتبع نشوءها وقطورها، كاشفاً عن التناقضات الداخلية التي تعتمل فيها، وتحفزها على التطور الصاعد، من الأدنى إلى الأعلى، ومن الصور البسيطة إلى الصور المركبة والمعقدة.
ويُعرض الجدل عن المصادرات الدوغمائية، فحركة الواقع ا لحي أغنى من كل نظرية، وعلى العقل أن يبقى مُشْرَعاً على كل جديد، وأن يمتلك الرؤية الدينامية التي ترى في الوجود سيرورة نامية متجددة؛ ولعل تلك الدينامية، التي يتبادل الواقع والفكر الحوار عبرها، هي أحد مفاتيح الجدل.
أما المفتاح الآخر، فيتمثل في أن الحقيقة توجد، دوماً، على نحو حسّي، فليس من حقيقة مجردة، وما الصور، والمفاهيم التي تتولد في أذهاننا، سوى خلاصة المعالجة الفكرية للحقائق الحسية، وما دام الواقع الحي، في حركته الدينامية، هو مصدر الحقيقة، فإنه ينبوع المعرفة الأساس.
ومهمة الجدل، كمنهج، هي أن يضع آلته المعرفية في خدمة الجهد الإنساني، للإقتراب، أكثر فأكثر، من حقائق الوجود، وتوجيه معرفتنا لخدمة البشرية، ورقيها، والحفاظ على الطبيعة الحية.
ويمكن القول، بأن الجدل لم يبدأ بمثالية هيجل، ولم ينته بادية ماركس، فالفكر الإنساني مسكون بالجدل منذ أن وضع الإنسان قدمه على عتبة الحضارة، وهكذا هو الأمر بالنسبة للجدلية في الفكر الإسلامي، إذ تنتقل العناصر الجدلية، بزخمها، من الفلسفة الإغريقية إلى الفكر الإسلامي في عصره الوسيط وتتداخل مع المؤثرات القادمة من الشرق، كالزرادشتية، والبوذية، والمانوية، والدهرية... فتضفي عليها الثقافة الإسلامية طابعها وأصالتها، لتنتج عدداً من الفلاسفة والمفكرين الكبار كالمعتزلة، والكندي، والفارابي، والرازي، وإخوان الصغار وابن سينا، والكرماني، في المشرق، وابن ماجة وابن طفيل، وابن رشد، وابن عربي، في المغرب، وتتفاوت الملامح الجدلية في أفكار هؤلاء، والذي كان للباحث فصلاً تلمس أبرز تلك الملامح الجدلية لدى سبق المعري أو عاصره.
هذا وقد بلغ الفكر الإسلامي المشرقي، في عصر المعري، ذروة تطوره، قبل أن يستلم المغاربة الراية من بعده، وقد تميز الفكر الإسلامي المشرقي بتراثه وتعدد مناحيه، والذي شكل مصدراً من مصادر الفكر العلائي، فضلاً عما تقصّاه أبو العلاء من إرث الفلسفة الإغريقية، والمذاهب الشرقية (الفارسية والهندية) بما في ذلك ما يتصل في البحث في الملامح الجدلية في فكر المعري.
وإلى هذا، فإنه لم يعرف عن المعري أنه كتب كتاباً في الفلسفة خالصاً، عرض فيه أفكاره على نحو منهجي، فأفكاره الفلسفية، كأفكاره الإجتماعية، مثبوتة في شعره ونثره، بدون تصنيف أو تبويب يتعلق بمضامينها وأغراضها، ولذلك فإن كل ما يكتب عن فكره، هو محاولة تنظيم أو فرض نظام على تلك الأفكار.
وكل نظام لم يصفه صاحبه يحمل شيئاً من الإجتهاد والمصادرة وربما انطوى على تعسف، أو تلفيق فكري، ولا بد أن يحمل شيئاً كثيراً أو قليلاً، من آراء الدارس وثقافته، وطابع عصره.
ويمكن للقارئ إستشفاف ذلك من خلال ثنايا هذا البحث، وعلى التحديد فيما يتعلق في الملامح الجدلية في فكر المعري، من خلال رصد ذلك في شعره ونثره، وهو عمل ليس بالهين، ولا شك أن البحث عن الفكرة المنشورة، في ركام من الأفكار، هو عملية مضنية تابعها الباحث لما للمعري من مكانة، وبذا ففكره يستحق هذا الجهد.
وقد قام بتقسيم موضوع البحث هذا إلى عدة فصول وفقاً لأغراض البحث، ليتحرى، في كلٍّ منها، تلك الملاح التي تكشف عن عقل جدليّ عظيم؛ وإن افتقدت الناظم المنهجي الذي يلمّ شتاتها في منظومة متماسكة بينة المعالم.