موت القراءة يهدد الروح

بقلم: فيليب يانسي

ترجمة: زُهى صالح

تحرير: ورّاق

أُعاني من أزمة شخصية، اعتدت على حبّ القراءة أكتب هذه التدوينة في مكتبي، محاطًا بــ 27 رفاً طويلاً محمل بــ (5000) كتاب، لقد قرأتها على مرّ السنين, ووضعت علاماتٍ عليها، وسجّلت التعليقات التوضيحية في قاعدة بيانات على جهاز الكمبيوتر للحصول على اقتباسات في كتاباتي المستقبلية، لقد شكّلت الكتب إلى حدٍ كبير حياتي المهنية والروحية. ساعدتني الكتب في تحديد من أكون..!
لقد أدخلتني في رحلة إيمان، وأدخلتني إلى عجائب العلوم والعالم الطبيعي، وأطلعتني على قضايا مثل: العدالة والعِرْق, والأهمّ من ذلك أنّها كانت مصدرًا للفرحة والمغامرة والجمال، حيث فتحت لي النوافذ على واقع لم أكن أعرفه.
تتمثل أزمتي في حقيقة أنني أصف ماضيَّ، وليس حاضري, كنتُ أقرأ ثلاثة كتب في الأسبوع, وفي إحدى السنوات خصّصت أمسية كل أسبوع لقراءة مجلدات مسرحيات شكسبير (حسنا, بسبب الانقطاعات تطلب الأمر مني في الواقع عامين) وفي سنة أخرى قرأت أهم أعمال تولستوي و دوستويفسكي, لكنّني في هذه الأيام أقرأ العديد من الكتب القصيرة التي لا تتطلب عملًا شاقًا. لقد درَّب الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي عقلي على قراءة فقرة أو فقرتين، ثمّ الانتقال باحثًا عن أمور أخرى، فعندما أقرأ مقالة على الإنترنت من إحدى المجلات، أقوم بعد بضع فقرات بإلقاء نظرة سريعة على شريط الفقرات للحكم على طول المقالة فيتشتت تركيزي ، وأجد نفسي أضغط على روابط تحتها خط، سرعان ما تنتهي بي إلى الدخول على موقع إخباري يتناول أحدث التغريدات التي نشرها (دونالد ترامب) وتفاصيل آخر هجوم إرهابي، أو ربّما التحقق من حالة الطقس في الغد.!
الأسوأ من ذلك أنني أقع فريسة للمربعات الصغيرة التي تشدني بــ" إذا أعجبك هذا المقال فسوف يعجبك ... أيضًا"  أو أُلقي نظرة على الجزء السفلي من الشاشة الذي تظهر فيه الإعلانات التشويقية مثل: "لمزيد من الحكايات الجذابة"أو"30 من حقائق الأميش التي سوف تجعلك ترجف" أو "أسوأ 10 إطلالات المشاهير" أو "التقطت كاميرات (وول مارت) هذه الصور المضحكة" ثمّ ما ألبث حتى أفقد الاهتمام بالمقالة الأصلية.
علماء الأعصاب لديهم تفسير لهذه الظاهرة وهو أنّه عندما نتعلم شيئًا سريعًا وجديدًا، فإنَّ عمليات مسح الدماغ بالرنين المغناطيسي تُظهر نشاط مراكز المتعة في الدماغ، من خلال تدفق الدوبامين, وهذا يشبه التجربة المشهورة التي تستمر فيها الجرذان بالضغط على ذراع صغير للحصول على ما يزيد من تدفق ذروة الدوبامين. في البشر تغذي رسائل البريد الإلكتروني أيضًا مركز المتعة هذا، ومثلها تويتر وانستقرام وسناب شات.
كتاب "نيكولاس كار" المسمّى بــــ "المياة الضحلة " يحلّل هذه الظاهرة، وعنوانه الفرعي "ما يفعله الإنترنت لأدمغتنا", يوضح كار أنَّ معظم الأمريكيين والشباب على وجه الخصوص، يُظهرون انخفاضًا حادًا في كمية الوقت الذي يقضونه في القراءة يقول:" كنت غواصًا في بحر الكلمات أمّا الآن أسير على السطح مثل رجل على زلاجة مائية".
كما يُظهر تقرير "نيلسن" لعام 2016م أنَّ معظم الشعب الأمريكي يكرِّس أكثر من 10 ساعات في اليوم لاستهلاك الوسائط بما في ذلك الراديو والتلفزيون وجميع الأجهزة الإلكترونية, ويشكل ذلك 65 % من ساعات الاستيقاظ، ممّا يترك القليل من الوقت للعمل والوقت الأقل للتركيز على القراءة.
في كتاب "مرثيات غوتنبرغ " أعرب "سفين بيركيرتس" عن أسفه لفقدان القراءة العميقة التي تتطلب تركيزًا مكثفًا, أشعرني كتابه بإدانة شديدة لنفسي. أُأَجل باستمرار كتاب "تشارلز تايلور" (عصر علماني) وأنظر إلى رفوفي الممتلئة بكتب "لاهوت يورغن مولتمان" مع شعور بالحنين للعودة إليها، لماذا لا أقرأ كتبًا من هذا القبيل الآن؟

ضمن إحدى المقالات وجد الكاتب أنَّ مجموعة من رواد الأعمال البارزين يشتركون في ممارسة يصفها بـــ "قاعدة ال 5 ساعات" وهي أنّهم يضعون ساعة على الأقل في اليوم (أو خمس ساعات في الأسبوع) للتعلم الذاتي.
فمثلًا: يقرأ "بيل غيتس" 50 كتابًا سنويًا, ويقرأ "مارك زوكربيرج" كتابًا واحدًا على الأقل كل أسبوع, و نشأ "إيلون ماسك" على قراءة كتابين في اليوم, كما يقرأ "مارك كوبي" أكثر من ثلث ساعة كل يوم, ويقرأ "آرثر بلاك" ساعتين في اليوم, و عندما سئل "وارين بافيت" عن سرّ نجاحه أشار إلى مجموعة من الكتب فقال مجيبًا:" أقرأ 500 صفحة من هذا النوع كل يوم، هكذا تعمل المعرفة إنها تتراكم مثل الفائدة المركبة, كلنا قادرون على فعل ذلك، لكنني أضمن أن الكثير منكم لن يفعل ذلك!
"تشارلز تشو" الذي نقل هذا عن "بافيت" على موقع كوارتز، يعترف بأنّ قراءة 500 صفحة في اليوم لا يمكن لكثير من الناس تحقيقها, ومع ذلك يثبت علم الأعصاب ما يمارسه كل هؤلاء الأشخاص المشغولين، فالقراءة المطولة في واقع الأمر تتطلب طاقة أقل للتركيز باهتمام، وطاقة أقل كثيراً من الانتقال من مهمة إلى مهمة, وبعد ساعة من التأمل أو القراءة العميقة المطولة، ينخفض الدم العصبي لديك وتكون أكثر استعدادًا لمواجهة التحديات الذهنية .
إذا لم نتمكن من الوصول إلى رقم "وارن بافيت" العالي في القراءة ، فما هو الهدف الواقعي؟ يحسب "تشارلز تشو" متوسط سرعة قراءة 400 كلمة في الدقيقة، فيجد الأمر سيستغرق 417 ساعة في السنة لقراءة 200 كتاب، أي أقل من 608 ساعات, وهو المتوسط الذي ينفقه الأمريكي على وسائل التواصل ، أو ما يقارب 642 ساعة  التي ينفقها في مشاهدة التلفزيون.
يقول كوارتز: "هذه هي الحقيقة البسيطة وراء قراءة الكثير من الكتب ليس الأمر صعبًا, لدينا كل الوقت الذي نحتاجه, الجزء المخيف - وهو الجزء الذي نتجاهله جميعًا - هو أنّنا مدمنون للغاية، وضعفاء جدًا، ومشتتون إلى حدٍ كبير على فعل ما نعلم جميعًا أنه مهم".
ويقول: إنّ قوة الإرادة وحدها ليست كافية, نحن بحاجة إلى بناء ما يسميه "حصنًا من العادات" وأحبّ هذه الفكرة!
لقد راجعت مؤخرًا موقع المؤلفة "آنيا ديلارد" الذي تقول فيه :" لا يمكنني السفر , ولا أستطيع أن ألتقي بالغرباء , ولا أستطيع توقيع الكتب, ولا أستطيع الكتابة حسب الطلب, ولا يمكنني إجابة الرسائل, لدي القراءة والتركيز." هذا ما أسميه حصن.
لقد استنتجت أنّ الالتزام بالقراءة هو معركة مستمرة، مثل المعركة ضد إغواء الإباحية على الإنترنت, علينا بناء حصن بجدران قوية بما يكفي لتحمل إغراءات ذروة الدوبامين القوية مع توفير المأوى لبيئة تسمح للقراءة العميقة بالازدهار, فالمؤمنون بحاجة على وجه الخصوص إلى مأوى، لأنّ التأمل الهادئ هو واحد من أهم التخصصات الروحية, و الثقافة الحديثة تقدم عقبات هائلة لتغذية الروحانية والإبداع.
وبصفتي أكتب عن الإيمان في عصر وسائل التواصل، أدير صفحة على الفيسبوك وموقعًا على الويب وأكتب في مدوّنة منذ ثلاثين عامًا، كنت أتلقّى من القراء الكثير من الرسائل، وكانوا ينتظرون الإجابة أسبوع أو أكثر.
أما الآن فأتلقّى رسائل إلكترونية، وإذا لم يصلهم الرد في غضون يومين، يعودون للكتابة مرة أخرى متسائلين "هل تلقيت بريدي الإلكتروني؟" الإلحاح يحتشد من حولي إذا استسلمت لهذا الطغيان، فإنّ حياتي ستملؤها الفوضى العقلية.
يقول الباحثون: إنّ الملل هو وقت حدوث الإبداع, يتجول العقل في أماكن جديدة غير متوقعة. عندما أخرج في إجازة وأذهب إلى الجبال وأقطع التيار الكهربائي لبضعة أيام، يحدث شيء سحري. أذهب إلى الفراش محتاراً بسبب حبسة الكتابة، وفي الصباح التالي أستيقظ والحل واضح تمامًا, وهو أمر لا يحدث أبداً عندما أقضي وقت فراغي في الإبحار عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت.
أجد كذلك أن الشعر يساعد, فلا يمكنك الإسراع في قراءة الشعر، يجبرك الشعر على الإبطاء، والتفكير، والتركيز، والاستمتاع بالكلمات والعبارات. أحاول الآن أن أبدأ كل يوم مع مقطوعات شعرية مختارة من "جورج هيربرت، جيرارد مانلي هوبكنز، أو ر. توماس". أمّا بالنسبة إلى القراءة العميقة أبحث عن ساعة في اليوم تكون فيها طاقتي الذهنية في قمتها، وليس وقتا اقتطعه من مهام أخرى, أضع سماعات الأذن وأستمع إلى الموسيقى الهادئة، وأغلق الباب دون تشتيت.وأتعمد عدم استخدام الرسائل النصية في التواصل.

كان الحرج يصيبني عندما أسحب هاتفي قديم الطراز، والذي تقول زوجتي أنه يجب التبرع به لمتحف, أمّا الآن أنا أظهره بنوع من التفاخر الغريب، أشعر بالأسف للمراهقين الذين يفحصون هواتفهم في المتوسط 2000 مرة في اليوم.!
نحن منخرطون في حرب، والتكنولوجيا تستخدم الأسلحة الثقيلة, كتاب "رود درير" "خيار بنديكت" يحث الناس على الإيمان بضرورة التراجع خلف الجدران الرهبانية كما فعل البينديكتين بعد كل ما مرُّوا به، حافظوا على الكتابة والقراءة والثقافة في أحد أحلك عصور التاريخ البشري! لا أتفق تمامًا مع درير في فكرة الترهبن، على الرغم من أنني مقتنع بأن الحفاظ على القراءة سيتطلب شيئًا مشابهًا لخيار بنديكت.
ما زلت أعمل على بناء حصن العادات هذه، محاولاً إعادة إحياء الغذاء الغني الذي قدمته لي القراءة منذ فترة طويلة, إذا كان يمكنني فقط أن أقاوم النقر على رابط "30 من حقائق الأميش التي سوف تجعلك ترجف

المصدر 

6 من التعليقات

  • كلمة وحدة تخطر لي لمن أتصفح موقعكم (الشغف) الاهتمام بنشر المعرفة والانتقائية بالمحتوى تنبع من شخص يحب عمله متجركم كيييوت ولا عزاء لجملون

    يُسرى
  • اعاني من نفس المشكله، لدي الكثير من الكتب الجديده. لقد أنفقت الوقت، و الجهد، و المال. لجمعها والاستمتاع بقرائتها في رمضان. ولاكن أجد الأمر مستحيل لا وقت لفعل اي شيء. اعلم يقيناً انني برمجت عقلي منذ سن المراهقه من دون أن أشعر على ذلك انه في رمضان لا يوجد وقت كافي لفعل شيء وهذا خاطئ جداً.
    المقاله صححت المفهوم لعقلي الآن يجب أن ابني حصناً من العادات القويه، يجب أن اقرأ قبل أن ينتهي العام الهجري ١٠ كتب بإذن الله.
    اجل سوف افعل فأنا استطيع لأنني أُريد ✊🏼
    شكراً للمقال المذهل، جزاكم الله خيراً و إلى الأمام دائما 💙💙

    أميرة العسيري
  • مقال قيم يستحق التأمل ومراجعة النفس ذكرني بكتاب الشيخ إبراهيم السكران حفظه الله ورعاه " الماجريات"

    أبو سالم المهري
  • هذا الموضوع رفيقي الذهني من نهاية ٢٠١٨ وانا احاول واخطط واتأمل في البعد عن وسائل التواصل ، انا تحسنت الان ، بواقع ساعتين تقريباً يومياً ، وبواقع حسابات اقل بكثيييير من الماضي في مواقع التواصل ، ولكن لم أصل لمبتغاي حتى الان ، إذ لم ينعكس ذلك على قراءتي بالشكل الذي أتمناه.

    @1faisal1
  • ما قيل حقًا، ولا يدركه إلا من أمعن النظر

    أفنان بنت فهد بن عبدالله باجبع

اترك تعليقا

يرجى ملاحظة أنه يجب الموافقة على التعليقات قبل نشرها