إن الحظ الأوفر الذي ناله الإمام الغزالي من علوم الفلاسفة لم يمكنه من الإحاطة بمقاصدهم فحسب، بل خوَّله أن يكون سيد النُّقاد لهم في عصرٍ عَلَتْ فيه أصواتهم، وكادت أن تطغى كلماتهم، فإذا به يفجأ الجميع حينما غلَّ أيديهم، وأخرس ألسنتهم، وأبطل حججهم، فأزال بهرجهم وكشف زيفهم، وكلَّمهم بلسانهم، فنقض بُنيانهم من القواعد فخرَّ السقف على رؤوسهم.
إننا ندرك أنه حين ألَّف كتابه الشهير الذي عُدَّ منعطفاً في تاريخ تدوين العلوم المنطقية الفلسفية: «تهافت الفلاسفة» والذي جعل «معيار العلم» القسم الثالث من «التهافت».. كان موفقاً غاية التوفيق في ذلك، ثم إنه ارتأى أن يُفْرِد هذا المبحث بمؤلَّفٍ مستقل يكون كتاباً برأسه؛ لأنه مرجعٌ لكل طالب علمٍ يبتغي الحق بعيداً عن التقليد المبني على غير أساس.
وعنوان الكتاب يشي بمضمونه، فالمؤلف يلفت الانتباه إلى أن كتابه هذا هو الميزان التي توزن به العلوم، فيعرف البهرج المزيف من النضار، وبه يتميز العلم اليقيني من الظني، والقريب من اليقيني من الظني المحض، ودرجات الظنون، والشكوك والأوهام ثم الباطل المحض.
وبيَّن في مقدمته أن الباعث على التأليف أمران، فقال: (فلما كثر في المعقولات مزلة الأقدام ومثارات الضلال، ولم تنفكَّ مرآةُ العقل عمَّا يكدِّرها من تغليطات الأوهام وتلبيسات الخيال.. رتَّبنا هذا الكتاب معياراً للنظر والاعتبار، وميزاناً للبحث والافتكار، وصيقلاً للذهن، ومِشْحذاً للقوة المفكرة من العقل).
والأمر الثاني: (الاطلاع به على ما أودعناه كتاب «تهافت الفلاسفة» فإنا ناظرناهم بلغتهم، وخاطبناهم على حكم اصطلاحاتهم التي تواضعوا عليها في المنطق، وفي هذا الكتاب تنكشف معاني تلك الاصطلاحات).