عندما كنت أناقش المعترضين على أساسيات تطور الكائنات الحية، فقد كانوا يبادرون دوماً بالقول بأن أحداً لم ير التطور! إنه لم يحدث أمام أعيننا أو في مختبرٍ ما، التطور بالنسبة لرؤيتهم المحدودة هو فرضية لأمر غابر يفترض أنه حدث وليس أمراً مستمراً الآن. الاطلاع على التجارب الكثيرة حول البكتيريا كان ثميناً في هذا الصدد غير أن البكتيريا بحد ذاتها لم تكن في حيز استيعاب الكثير من الناس من ذوي الثقافة والتعليم المتواضعين. لكن أن نرى حيواناً من الثدييات وهو يتطور جيلاً بعد جيل وبناءاً على معطيات للانتخاب الاصطناعي نحددها نحن البشر! فهنا تأتي روعة تجربة ديمتري بيلييف ومساعدته ليودميلا التي تجعلنا نقف مذهولين أمام العمل الفذ الذي أقيم في الظروف الحالكة للاتحاد السوفيتي ولاسيما في أثناء حملات ليسينكو على نظرية التطور وعلم الوراثة، والأعظم من ذلك هو استمرار تلك التجربة حتى يومنا هذا وخضوعها للكثير من الضغوط دون أن يمس جوهرها العلمي.
يلخص هذا الكتاب المسيرة المجيدة لتجربة تدجين الثعالب الفضية ويفتح أنظارنا على أبعاد كثيرة للتجربة لم نكن لنعرف بها عبر التقارير والمقالات البسيطة. شخصياً ورغم اطلاعي الوافي عن التجربة لم أكن أتصور أنني سأتعلم بهذا القدر عنها ومنها وبواسطة هذا الكتاب. الآن وبعد الوقوف على كتاب يخلد قصة تجربة علمية كهذه يُمكن القول إننا نحتاج إلى المزيد من الكتب حول قصص التجارب لنتعلم من دروسها ونتعلم ما حدث فيها بالبساطة التي عاشها أصحاب التجارب أنفسهم وبلغة السرد القصصي لا بلغة البحوث والأوراق الأكاديمية.
لن أضيع وقتكم وأضيع فرصتكم التعرف على المفاجآت الكامنة في هذا الكتاب عبر سردها هنا، لكن وأنت تفتح صفحات هذا الكتاب لتقرأه اعلم أنك أمام كنز معرفي ينقلك إلى أطراف الريف السوفيتي لتعرف حال الناس هناك وقتها، وليجعلك تمر بتأريخ أزمة علمية عصفت بعلم الأحياء بشكل عام في الاتحاد السوفيتي، وتتعرف على علماء كبار قاموا بالعجائب التي لن تراها إلا في الأفلام السينمائية، ستتعلم الكثير من التفاصيل العلمية بأجمل إسلوب تتوقعه، والأهم من كل شيء ستعلم أن كثيراً مما في هذا الكتاب لا يمس الحيوانات فحسب، بل يتعلق بنا نحن البشر بصورة أساسية ومباشرة. ستقرأ عن الهورمونات والأعصاب وأعضاء الجسم المختلفة وعن تجارب شبيهة بتجربة الثعالب الفضية وستتعرف على التطور مثلما تعرف عليه بيلييف وليودميلا في مزرعة الثعالب في سيبيريا.
لو كنت قد سمعت بالتجربة أو قرأت عنها فستجد في هذا الكتاب ما يثري معلوماتك ويزيدك اعجاباً بها. ولو لم تكن قد سمعت عن تجربة تدجين الثعالب الفضية فأنت أمام أحد أكثر الفصول إشراقاً وتشويقاً للبحث العلمي في علم الأحياء وقد وضعت يدك على الكتاب الصحيح لفهم الكثير مما يجري في عالم الكائنات الحية وبإسلوب قصصي مشوق.