
بين الضفتين لحظات عربية في الثقافة الفرنسية - ابراهيم العريس
ما هذا الكتاب "بين الضفتين" إلا مرآة لبعض هذه الصورة، فالصورة كلها تحتاج إلى مجلدات وألوف الصفحات، ومن هنا يحاول المؤلف في هذا الكتاب، ودون أن يكون عمله هذا دراسة أكاديمية، أو سرداً تاريخياً، يحاول التوقف عند محطات بارزة علاماتها مبدعون في شتى الفنون والآداب والأفكار، وآيتها تلك العدواة التي بعدما استشرت إبان حملة بونابوت وإحتلال فرنسا للجزائر، وتسلها إلى بلدان عربية، وضروب قمع خاضتها في هذه البلدان وصولاً إلى ما سمي "العدوان الثلاثي" على مصر، والقسوة التي جوبهت بها الثورة الجزائرية بها، تحولت تدريجياً لتجعل من ضفاف المتوسط... وعل الأقل بما يتعلق بالتلاقح الفرنسي / العربي - نموذجاً للتعايش بين الحضارات.
وهذا النموذج هو ما يترسم عبر فصول الكتاب وأقسامه، وفي معظم الأحيان عبر ما يقوله ويؤكده بعض الذين عرفوا كيف يجعلون من أنفسهم هذا النموذج، فرنسيين كانوا أم عرباً، مفكرين وأدباء، أو سينمائيين، رسامين أو مجرد مغامرين... وكانت النتيجة أعمالاً وأفكاراً هي ما يحاول هذا الكتاب تقديم بعض الصور عنها، وهذا التقديم يأتي في القسم الذي شمل حذرات من أبرز "المستشرقين" و"المستعربين" من الذين يرسمون خط سيرهم وسط تعرجات هذا العالم العربي ورماله المتحركة وآفاقه الفردوسية، وفي قسم آخر عبر الوقوف عندما ما يمكن إعتباره نظرات متقاطعة، على سبيل المثال: كيف ينظر شاعر/ رحالة كجيراردي ترفال إلى الشرق فيما كان رفاعة الطهطاوي ينظر إلى باريس، أو كيف استوحى بيكاسو أو مايتس أو ديلاكروا الشرق لغرض أشكال ومواضيع وألوان جديدة على الفن الفرنسي والأوروبي.
من نظرة كوكتر إلى مصدر إلى تجوال بيارلوتي من مدن الشرق، ومن غرق إيزابيل ابرهاردت في صحراء الجزائر، إلى سجن أندريه ميكيل في مصر الخمسينيات، تتحرك العلاقة بين فرنسا والعرب، وهي نفسها العلاقة التي ترى إلى جورج شحادة واحداً من كتاب المسرح الفرنسي الطليعيين، أو إلى أمين معلوف عضواً في الأكاديمية مجدداً في اللغة الفرنسية على خطى زميلته الجزائرية أسياجيا، وبالتوازي مع طاهر بن جلون عضواً في أكاديمية غونكور.
وفي هذا السياق لِمَ لا يكون بالإمكان إعتبار أدب غوستاق لوكليزو (الفائز بجائزة نوبل) إرتباطاً بالحساسية العربية في عروق أبرز رواياته؟!... هذا الإرتباط بين الحساسيتين، وتحديداً عبر حوار حضاري / ثقافي / فكري بين ضفتي المتوسط، هو بالتحديد ما يسعى هذا الكتاب إلى التوقف عنه؛ عبر لحظات ومحطات شكلت قسماً كبيراً من هذا الكتاب.