كنا نتجول بالقرب مما يُدعى «جنينة نهاية العالم »، في طريق كئيب يجاور قلعة «مونتين »، حين بادروني بالسؤال: – من أين لكَ كل هذا الشغف في الاختفاء؟ كان مرافقي يود أن يعرف مصدر فكرة الاختفاء هذه التي غالباً ما كنتُ أُصرّح بها كتابةً وفي المقابلات، رغم أنها لم تأخذ حيز التطبيق مطلقاً. باغتني سؤاله، لأني كنتُ في تلك اللحظة أسير غارقاً تماماً في التفكير بالهدف الذي سجله «بيلي » في مونديال السويد لكرة القدم، وعليه لم أنتبه جيداً إلى السؤال. طلبت إليهم أن يعيدوه. – لا أدري –أجبت بعد قليل– أجهل مصدره لكني أشك على نحو متناقض أن هذا الشغف في الاختفاء، وكل هذه المحاولات التي نطلق عليها انتحارات، ليست سوى محاولات لتأكيد الذات. كان لهذه الكلمات المقالاتية، إن جاز تسميتها هكذا، وقع كبير لا يقل شأناً عن مهد جنس المقالات الأدبية نفسه. وكما هو معروف، فإن ميشيل مونتين كتب كل مؤلفاته في أعلى أحد الأبراج التابعة لقلعته القريبة من بورديوس. كتبها جميعاً في قاعة ومكتبة في الطابق الثالث من البرج. هناك ابتكر المقالة، هذا الجنس الأدبي الذي اقترن مع مرور الوقت، ببُنية الذات الحديثة، البُنية التي سيساهم فيها ديكارت الذي قرر أيضاً أن يحصر تفكيره في مكان منعزل، في إحدى الغرف الدافئة لثكنات «أولم » الشتائية. وعليه يمكن القول إن الجنس الحديث لم ينبثق من خلال الاتصال بالعالم، إنما في غرف منعزلة، حبس المفكرون أنفسهم بداخلها، بين شك ويقين.